الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **
{وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون، وخلقنا لهم من مثله ما يركبون، وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون، إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين} قوله تعالى}وآية لهم} يحتمل ثلاثة معان: أحدها عبرة لهم؛ لأن في الآيات اعتبارا. الثاني نعمة عليهم؛ لأن في الآيات إنعاما. الثالث إنذار لهم؛ لأن في الآيات إنذارا. }أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون} من أشكل ما في السورة؛ لأنهم هم المحمولون. فقيل: المعنى وآية لأهل مكة أنا حملنا ذرية القرون الماضية }في الفلك المشحون} فالضميران مختلفان؛ ذكره المهدوي. وحكاه النحاس عن علي بن سليمان أنه سمعه يقول. وقيل: الضميران جميعا لأهل مكة على أن يكون ذرياتهم أولادهم وضعفاءهم؛ فالفلك على القول الأول سفينة نوح. وعلى الثاني يكون اسما للجنس؛ خبّر جل وعز بلطفه وامتنانه أنه خلق السفن يحمل فيها من يصعب عليه المشي والركوب من الذمة والضعفاء، فيكون الضميران على هذا متفقين. وقيل: الذرية الآباء والأجداد، حملهم الله تعالى في سفينة نوح عليه السلام؛ فالآباء ذرية والأبناء ذرية؛ بدليل هذه الآية؛ قاله أبو عثمان. وسمي الآباء ذرية؛ لأن منهم ذرأ الأبناء. وقول رابع: أن الذرية النطف حملها الله تعالى في بطون النساء تشبيها بالفلك المشحون؛ قاله علي بن أبى طالب رضي الله عنه؛ ذكره الماوردي. وقد مضى في }البقرة} اشتقاق الذرية والكلام فيها مستوفى. و}المشحون} المملوء الموقر، و}الفلك} يكون واحدا وجمعا. وقد تقدم في }يونس} القول فيه. قوله تعالى}وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} والأصل يركبونه فحذفت الهاء لطول الاسم وأنه رأس آية. وفي معناه ثلاثة أقوال: مذهب مجاهد وقتادة وجماعة من أهل التفسير، وروي عن ابن عباس أن معنى }من مثله} للإبل، خلقها لهم للركوب في البر مثل السفن المركوبة في البحر؛ والعرب تشبه الإبل بالسفن. قال طرفة: جمع خلية وهي السفينة العظيمة. والقول الثاني أنه للإبل والدواب وكل ما يركب. والقول الثالث أنه للسفن؛ النحاس: وهو أصحها لأنه متصل الإسناد عن ابن عباس. }وخلقنا لهم من مثله ما يركبون} قال: خلق لهم سفنا أمثالها يركبون فيها. وقال أبو مالك: إنها السفن الصغار خلقها مثل السفن الكبار؛ وروي عن ابن عباس والحسن. وقال الضحاك وغيره: هي السفن المتخذة بعد سفينة نوح. قال الماوردي: ويجيء على مقتضى تأويل علي رضي الله عنه في أن الذرية في الفلك المشحون هي النطف في بطون النساء قول خامس في قوله}وخلقتا لهم مثله ما يركبون} أن يكون تأويله النساء خلقن لركوب الأزواج لكن لم أره محكيا. قوله تعالى}وإن نشأ نغرقهم} أي في البحر فترجع الكناية إلى أصحاب الذرية، أو إلى الجميع، وهذا يدل على صحة قول ابن عباس ومن قال: إن المراد }من مثله} السفن لا الإبل. }فلا صريخ لهم} أي لا مغيث لهم رواه سعيد عن قتادة. و روى شيبان عنه: فلا منعة لهم ومعناهما متقاربان. و}صريخ} بمعنى مصرخ فعيل بمعنى فاعل. ويجوز }فلا صريخ لهم}؛ لأن بعده ما لا يجوز فيه إلا الرفع؛ لأنه معرفة وهو }ولا هم ينقذون} والنحويون يختارون لا رجل في الدار ولا زيد. ومعنى}ينقذون} يخلصون من الغرق. وقيل: من العذاب. }إلا رحمة منا} قال الكسائي: هو نصب على الاستثناء. وقال الزجاج: نصب مفعول من أجله؛ أي للرحمة }ومتاعا} معطوف عليه. }إلى حين} إلى الموت؛ قاله قتادة. يحيى بن سلام: إلى القيامة أي إلا أن نرحمهم ونمتعهم إلى آجالهم، وأن الله عجل عذاب الأمم السالفة، وأخر عذاب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وإن كذبوه إلى الموت والقيامة. { وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين، وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين، ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون} قوله تعالى}وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم} قال قتادة: يعني }اتقوا ما بين أيديكم} أي من الوقائع فيمن كان قبلكم من الأمم، }وما خلفكم} من الآخرة. ابن عباس وابن جبير ومجاهد}ما بين أيديكم} ما مضى من الذنوب، }وما خلفكم} ما يأتي من الذنوب. الحسن}ما بين أيديكم} ما مضى من أجلكم }وما خلفكم} ما بقي منه. وقيل}ما بين أيديكم} من الدنيا، }وما خلفكم} من عذاب الآخرة؛ قال سفيان. وحكى عكس هذا القول الثعلبي عن ابن عباس. قال}ما بين أيديكم} من أمر الآخرة وما عملوا لها، }وما خلفكم} من أمر الدنيا فاحذروها ولا تغتروا بها. وقيل}ما بين أيديكم} ما ظهر لكم }وما خلفكم} ما خفي عنكم. والجواب محذوف، والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا؛ دليله قول بعد}وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين} فاكتفى بهذا عن ذلك. قوله تعالى}وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله} أي تصدقوا على الفقراء. قال الحسن: يعني اليهود أمروا بإطعام الفقراء. وقيل: هم المشركون قال لهم فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أعطونا ما زعمتم من أموالكم أنها لله؛ وذلك قوله قوله تعالى}ويقولون متى هذا الوعد} لما قيل لهم}اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم} قالوا}متى هذا الوعد} وكان هذا استهزاء منهم أيضا أي لا تحقيق لهذا الوعيد، قال الله تعالى}ما ينظرون} أي ما ينتظرون }إلا صيحة واحدة} وهي نفخة إسرافيل }تأخذهم وهم يخصمون} أي يختصمون في أمور دنياهم فيموتون في مكانهم؛ وهذه نفخة الصعق. وفي }يخصمون}خمس قراءات: قرأ أبو عمرو وابن كثير}وهم يخصمون} بفتح الياء والخاء وتشديد الصاد. وكذا روى ورش عن نافع. فأما أصحاب القراءات وأصحاب نافع سوى ورش فرووا عنه }يخصمون} بإسكان الخاء وتشديد الصاد على الجمع ببن ساكنين. وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة}وهم يخصمون} بإسكان الخاء وتخفيف الصاد من خصمه. وقرأ عاصم والكسائي }وهم يخصمون} بكسر الخاء وتشديد الصاد، ومعناه يخصم بعضهم بعضا. وقيل: تأخذهم وهم عند أنفسهم يختصمون في الحجة أنهم لا يبعثون. وقد روى ابن جبير عن أبي بكر عن عاصم، وحماد عن عاصم كسر الياء والخاء والتشديد. قال النحاس: القراءة الأولى أبينها، والأصل فيها يختصمون فأدغمت التاء في الصاد فنقلت حركتها إلى الخاء. وفي حرف أبي }وهم يختصمون} - وإسكان الخاء لا يجوز، لأنه جمع بين ساكنين وليس أحدهما حرف مد ولين. وقيل: أسكنوا الخاء على أصلها، والمعنى يخصم بعضهم بعضا فحذف المضاف، وجاز أن يكون المعنى يخصمون مجادلهم عند أنفسهم فحذف المفعول. قال الثعلبي: وهي قراءة أبي بن كعب. قال النحاس: فأما }يخصمون} فالأصل فيه أيضا يختصمون، فأدغمت التاء في الصاد ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين. وزعم الفراء أن هذه القراءة أجود وأكثر؛ فترك ما هو أولى من إلقاء حركة التاء على الخاء واجتلب لها حركة أخرى وجمع بين ياء وكسرة، وزعم أنه أجود وأكثر. وكيف يكون أكثر وبالفتح قراءة الخلق من أهل مكة وأهل البصرة وأهل المدينة! وما روي عن عاصم من كسر الياء والخاء فللإتباع. وقد مضى هذا في }البقرة} في {ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون، قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون، فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون} قوله تعالى}ونفخ في الصور} هذه النفخة الثانية للنشأة. وقد بينا في سورة (النمل) أنهما نفختان لا ثلاث. وهذه الآية دالة على ذلك. و وقد روي عن أبي هريرة أنه قرأ}ونفخ في الصور}. النحاس: والصحيح أن }الصور} بإسكان الواو: القرن؛ جاء بذلك التوقيف عن رسول الله، وذلك معروف في كلام العرب. أنشد أهل اللغة: نطحا شديدا لا كنطح الصورين وقد مضى هذا في }الأنعام} مستوفى. }فإذا هم من الأجداث} أي القبور. وقرئ بالفاء }من الأجداف} ذكره الزمخشري. يقال: جدث وجدف. واللغة الفصيحة الجدث (بالثاء) والجمع أجدث وأجداث؛ قال المتنخل الهذلي: واجتدث: أي اتخذ جدثا. }إلى ربهم ينسلون} أي يخرجون؛ قال ابن عباس وقتادة ومنه قول امرئ القيس: ومنه قيل للولد نسل؛ لأنه يخرج من بطن أمه. وقيل: يسرعون. والنسلان والعسلان: الإسراع في السير، ومنه مشية الذئب؛ قال: يقال: عسل الذئب ونسل، يعسل وينسل، من باب ضرب يضرب. ويقال: ينسل بالضم أيضا. وهو الإسراع في المشي؛ فالمعنى يخرجون مسرعين. وفي التنزيل قوله تعالى}قالوا ياويلنا} قال ابن الأنباري}يا ويلنا} وقف حسن ثم تبتدئ }من بعننا} وروي عن بعض القراء }يا ويلنا من بعثنا} بكسر من والثاء من البعث. روي ذلك عن علي رضي الله عنه؛ فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على قوله}يا ويلنا} حتى يقول}من مرقدنا}. وفي قراءة أبي بن كعب }من هبّنا} بالوصل }من مرقدنا} فهذا دليل على صحة مذهب العامة. قال المهدوي: قرأ ابن أبي ليلى}قالوا يا ويلتنا} بزيادة تاء وهو تأنيث الوصل، ومثله وقال أبو صالح: إذا نفخ النفخة الأولى رفع العذاب عن أهل القبور وهجعوا هجعة إلى النفخة الثانية وبينهما أربعون سنة؛ فذلك قولهم}من بعثنا من مرقدنا} وقال ابن عباس وقتادة. وقال أهل المعاني: إن الكفار إذا عاينوا جهنم وما فيها من أنواع العذاب صار ما عذبوا به في قبورهم إلى جنب عذابها كالنوم. قال مجاهد: فقال لهم المؤمنون}هذا ما وعد الرحمن}. قال قتادة: فقال لهم من هدى الله}هذا ما وعد الرحمن}. وقال الفراء: فقالت لهم الملائكة}هذا ما وعد الرحمن}. النحاس: وهذه الأقوال متفقة؛ لأن الملائكة من المؤمنين وممن هدى الله عز وجل. وعلى هذا يتأول قول الله عز وجل {إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون، هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون، لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون، سلام قولا من رب رحيم، وامتازوا اليوم أيها المجرمون} قوله تعالى}إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبدالله بن مسعود في قوله}إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون} قال: شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله. وقال أبو قلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول؛ فيقال تحول أيضا إلى أهلك. وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم؛ قال سعيد بن المسيب وغيره. وقال وكيع: يعني في السماع. وقال ابن كيسان}في شغل} أي في زيارة بعضهم بعضا. وقيل: في ضيافة الله تعالى. خدود عذارى قد خجلن من الحيا تهادين بالريحان فوق الأرائك قوله تعالى}وامتازوا اليوم أيها المجرمون} ويقال تميزوا وأمازوا وامتازوا بمعنىً؛ ومزته فانماز وامتاز، وميزته فتميز. أي يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة؛ أي اخرجوا من جملتهم. قال قتادة: عزلوا عن كل خير. وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض؛ فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. وعنه أيضا: إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه؛ فتكون فيه أبدا لا تَرى ولا تُرى. وقال داود بن الجراح: فيمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين. {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين، وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم، ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون، هذه جهنم التي كنتم توعدون، اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون قوله تعالى}ألم أعهد إليكم يا بني آدم} العهد هنا بمعنى الوصية؛ أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. }أن لا تعبدوا الشيطان} أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي: لا للنهي. }وأن اعبدوني} بكسر النون على الأصل، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة. }هذا صراط مستقيم} أي عبادتي دبن قويم. قوله تعالى}ولقد أضل منكم} أي أغوى }جبلا كثيرا} أي خلقا كثيرا؛ قاله مجاهد. قتادة: جموعا كثيرة. الكلبي: أمما كثيرة؛ والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة وعاصم}جبلا} بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر }جبلا} بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون }جبلا} ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبدالله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي }جبلا} بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي: وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس: أبينها القراءة الأولى؛ والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرؤوا {اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون، ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون، ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون، ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون} قوله تعالى}اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معا والكف؛ فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم. قوله تعالى}ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} حكى الكسائي: طمَس يطمِس ويطمُس. والمطموس والطميس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق. وقال الحسن والسدي: المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري. وقوله }فاستبقوا الصراط} أي استبقوا الطريق ليجوزوا }فأنى يبصرون} أي فمن أين يبصرون. وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى؛ فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال}فأنى يبصرون} ولم نفعل ذلك بهم؛ أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبدالله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: إذا كان يوم القيامة ومد الصراط.، نادى مناد ليقم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته؛ فيقومون برهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته؛ فيقوم فيتبعونه برهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجرا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صلى الله عليه وسلم؛ فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، مأخوذ من طمس الريح الأثر؛ قاله الأخفش والقتبي. قوله تعالى}ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون} المسخ: تبديل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة. قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعا تقصده فتتحير، فلا تقبل ولا تدبر. ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم. وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترؤوا فيه على المعصية. ابن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسلمي وزر بن حبيش وعاصم في رواية أبي بكر}مكاناتهم} على الجمع، الباقون بالتوحيد. وقرأ أبو حيوة}فما استطاعوا مضيا} بفتح الميم. والمضى بضم الميم مصدر يمضى مضيا إذا ذهب. قوله تعالى}ومن نعمره ننكسه في الخلق} قرأ عاصم وحمزة }ننكسه} بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون }نَنْكُسه} بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكست الشيء أنكسه نكسا قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا. وقال سفيان في قوله تعالى}ومن نعمره ننكسه في الخلق} إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته. قال الشاعر: فطول العمر يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا، وهذا هو الغالب. وقد تعوذ صلى الله عليه وسلم من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد مضى في }النحل} بيانه. }أفلا يعقلون} أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان}تعقلون} بالتاء. الباقون بالياء}. {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين، لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين} قوله تعالى}وما علمناه الشعر وما ينبغي له} أخبر تعالى عن حال نبيه صلى الله عليه وسلم، ورد قول من قال من الكفار إنه شاعر، وإن القرآن شعر، بقوله}وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وكذلك كان رسول الله صلى عليه وسلم لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد ببت قديم متمثلا كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط صلى الله عليه وسلم. من ذلك أنه أنشد يوما قول طرفة: وأنشد يوما وقد قيل له من أشعر الناس فقال الذي يقول: وأنشد يوما: وقد كان عليه السلام ربما أنشد البيت المستقيم في النادر. روي أنه أنشد بيت عبدالله بن رواحة: وقال الحسن بن أبي الحسن: أنشد النبي عليه السلام: فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله إنما قال الشاعر: فقال أبو بكر أو عمر: أشهد أنك رسول الله، يقول الله عز وجل}وما علمناه الشعر وما ينبغي له}. وعن الخليل بن أحمد: كان الشعر أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له. إصابته الوزن أحيانا لا يوجب أنه يعلم الشعر، وكذلك ما يأتي أحيانا من نثر كلامه ما يدخل في ورن، كقول يوم حنين وغيره: وقوله: فقد يأتي مثل ذلك في آيات القرآن، وفي كل كلام؛ وليس ذلك شعرا ولا في معناه؛ كقوله تعالى روى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن إنشاد الشعر فقال: لا تكثرن منه؛ فمن عيبه أن الله يقول}وما علمناه الشعر وما ينبغي له} قال: ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: أن أجمع الشعراء قِبلك؛ وسلهم عن الشعر، وهل بقي معهم معرفة؛ وأحضر لبيدا ذلك؛ قال: فجمعهم فسألهم فقالوا إنا لنعرفه ونقوله. وسأل لبيدا فقال: ما قلت شعرا منذ سمعت الله عز وجل يقول قوله تعالى}لينذر من كان حيا} أي حي القلب؛ قال قتادة. الضحاك: عاقلا وقيل: المعنى لتنذر من كان مؤمنا في علم الله. هذا على قراءة التاء خطابا للنبي عليه السلام، وهي قراءة نافع وابن عامر. وقرأ الباقون بالياء على معنى لينذر الله عز وجل؛ أو لينذر محمد صلى الله عليه وسلم، أو لينذر القرآن. وروي عن ابن السميقع }لينذر} بفتح الياء والذال. }ويحق القول على الكافرين} أي وتجب الحجة بالقرآن على الكفرة. {أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون، وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون} قوله تعالى}أولم يروا أنا خلقنا لهم} هذه رؤية القلب؛ أي أو لم ينظروا ويعتبروا ويتفكروا. }مما عملت أيدينا} أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا وكالة ولا شركة. و}ما} بمعنى الذي وحذفت الهاء لطول الاسم. وإن جعلت }ما} مصدرية لم تحتج إلى إضمار الهاء. }أنعاما} جمع نعم والنعم مذكر. }فهم لها مالكون} ضابطون قاهرون. }وذللناها لهم} أي سخرناها لهم حتى يقود الصبي الجمل العظيم ويضربه ويصرفه كيف شاء لا يخرج من طاعته. }فمنها ركوبهم} قراءة العامة بفتح الراء؛ أي مركوبهم، كما يقال: ناقة حلوب أي محلوب. وقرأ الأعمش والحسن وابن السميقع}فمنها ركوبهم} بضم الراء على المصدر. و روى عن عائشة أنها قرأت}فمنها ركوبتهم} وكذا في مصحفها. والركوب والركوبة واحد، مثل الحلوب والحلوبة، والحمول والحمولة. وحكى النحويون الكوفيون: أن العرب تقول: امرأة صبور وشكور بغير هاء. ويقولون: شاة حلوبة وناقة ركوبة؛ لأنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان له الفعل وبين ما كان الفعل واقعا عليه، فحذفوا الهاء مما كان فاعلا وأثبتوها فيما كان مفعولا؛ كما قال: فيجب أن يكون على هذا ركوبتهم. فأما البصريون فيقولون: حذفت الهاء على النسب. والحجة للقول الأول ما رواه الجرمي عن أبي عبيدة قال: الركوبة تكون للواحد والجماعة، والركوب لا يكون إلا للجماعة. فعلى هذا يكون لتذكير الجمع. وزعم أبو حاتم: أنه لا يجوز }فمنها ركوبهم} بضم الراء لأنه مصدر؛ والركوب ما يركب. وأجاز الفراء }فمنها ركوبهم} بضم الراء، كما تقول فمنها أكلهم ومنها شربهم. }ومنها يأكلون} من لحمانها }ولهم فيها منافع} من أصوافها وأوبارها وأشعارها وشحومها ولحومها وغير ذلك. }ومشارب} يعني ألبانها؛ ولم ينصرفا لأنهما من الجموع التي لا نظير لها في الواحد. }أفلا يشكرون} الله على نعمه. {واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون، لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون، فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} قوله تعالى}واتخذوا من دون الله آلهة} أي قد رأوا هذه الآيات من قدوتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل. }لعلهم ينصرون} أي لما يرجون من نصرتها لهم إن نزل بهم عذاب. ومن العرب من يقول: لعله أن يفعل. }لا يستطيعون نصرهم} يعني الآلهة. وجمعوا بالواو والنون؛ لأنه أخبر عنهم بخبر الآدميين. }وهم} يعني الكفار }لهم} أي للآلهة }جند محضرون} قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم. وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. وقيل: المعنى أنهم يعبدون الآلهة ويقومون بها؛ فهم لها بمنزلة الجند وهي لا تستطيع أن تنصرهم. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وقيل: إن الآلهة جند للعابدين محضرون معهم في النار. فلا يدفع بعضهم عن بعض. وقيل: معناه وهذه الأصنام لهؤلاء الكفار جند الله عليهم في جهنم؛ لأنهم يلعنونهم ويتبرؤون من عبادتهم. وقيل: الآلهة جند لهم محضرون يوم القيامة لإعانتهم في ظنونهم. وفي الخبر: قلت: ومعنى هذا الخبر ما قوله تعالى}فلا يحزنك قولهم} هذه اللغة الفصيحة. ومن العرب من يقول يحزنك. والمراد تسلية نبيه عليه السلام؛ أي لا يحزنك قولهم شاعر ساحر. وتم الكلام. ثم استأنف فقال}إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون} من القول والعمل وما يظهرون فنجازيهم بذلك. {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} قوله تعالى}أولم ير الإنسان} قال ابن عباس: الإنسان هو عبدالله بن أبي. وقال سعيد بن جبير: هو العاص بن وائل السهمي. وقال الحسن: هو أبي بن خلف الجمحي. وقاله ابن إسحاق، ورواه ابن وهب عن مالك. }أنا خلقناه من نطفة} وهو اليسير من الماء؛ نطف إذا قطر. }فإذا هو خصيم مبين} أي مجادل في الخصومة مبين للحجة. يريد بذلك أنه صار به بعد أن لم يكن شيئا مذكورا خصيما مبينا. {وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم، قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم} قوله تعالى}وضرب لنا مثلا ونسي خلقه} أي ونسي أنا أنشأناه من نطفة ميتة فركبنا فيه الحياة. أي جوابه من نفسه حاضر؛ ولهذا قال عليه السلام: في هذه الآية دليل على أن في العظام حياة وأنها تنجس بالموت. وهو قول أبي حنيفة وبعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا حياة فيها. وقد تقدم هذا في }النحل}. فإن قيل: أراد بقوله }من يحي العظام} أصحاب العظام وإقامة المضاف مقام المضاف إليه كثير في اللغة، موجود في الشريعة. قلنا: إنما يكون إذ احتيج لضرورة وليس ها هنا ضرورة تدعو إلى هذا الإضمار، ولا يفتقر إلى هذا التقدير، إذا الباري سبحانه قد أخبر به وهو قادر عليه والحقيقة تشهد له؛ فإن الإحساس الذي هو علامة الحياة موجود فيه؛ قاله ابن العربي. {الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون} قوله تعالى}الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} نبه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الرطب. وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع حياة فخرج منها الحياة، والعظم بارد يابس بطبع الموت فكيف تخرج منه الحياة! فأنزل الله تعالى}الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا} أي إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار؛ فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير. معني بالآية ما في المرخ والعفار، وهي زنادة العرب؛ ومنه قولهم: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار؛ فالعفار الزند وهو الأعلى، والمرخ الزندة وهي الأسفل؛ يؤخذ منهما غصنان مثل المسواكين يقطران ماء فيحك بعضهما إلى بعض فتخرج منهما النار. وقال}من الشجر الأخضر} ولم يقل الخضراء وهو جمع، لأن رده إلى اللفظ. ومن العرب من يقول: الشجر الخضراء؛ كما قال عز وجل قوله تعالى}إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} قرأ الكسائي }فيكون} بالنصب عطفا على }يقول} أي إذا أراد خلق شيء لا يحتاج إلى تعب ومعالجة. وقد مضى هذا في غير موضع. }فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء} نزه نفسه تعالى عن العجز والشرك. وملكوت وملكوتي في كلام العرب بمعنى ملك. والعرب تقول: جبروتي خير من رحموتي. وقال سعيد عن قتادة}ملكوت كل شيء} مفاتح كل شيء. وقرأ طلحة بن مصرف وإبراهيم التيمي والأعمش }ملكة}، وهو بمعنى ملكوت إلا أنه خلاف المصحف. }وإليه ترجعون} أي تردون وتصيرون بعد مماتكم. وقراءة العامة بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي وزر بن حبيش وأصحاب عبدالله }يرجعون} بالياء على الخبر.
|